الصديقة

بقلم وهيبة جموعي
A+A-
إعادة

                 اليك في غربتك و غربة الصداقة بعدك…       

كنا اثنتين و المخبر ثالثنا…

على هامش التفاعلات الكميائية التي كنا نجريها ولدت صداقتنا…نمت صداقتنا…استمرت شامخة صداقتنا …

على هامش الأحماض و الأسس و أنابيب الاختبار كان تفاعل جميل يجري بيننا مخلفا سلسلة من المشاعرالنبيلة التي وطدها الألم المتقاسم والثورة المشتركة على واقع رفضناه فأعيانا و نبذنا تفاعلاته الرديئة فأوجعنا.

على هامش ذلك المجتمع الذي كنا خارجه و نحن بداخله  كأننا ابراهيم الخليل تحيط به النيران من كل جانب و لا تمسه تبلورت نظرتنا للناس و للحياة و عرفنا كيف نترفّع بنفسينا عن التفاهة السائدة و كيف نضحك و العمق فينا يبكي على المشهد الجنائزي الذي كان يعرض أمامنا.

استطعت أن تضبطي مزاجي المتقلب…

و استطعت ان ألطّف من مزاجك الحاد…

حضنت مبادئي و وجدتها فيك فاحتضنك قلبي…

احترمت فيَّ البعد الروحي…

 و احترمت فيك المنطق الديكارتي…

و مزجنا الكل فتكون لدينا ذلك الأسلوب الرائع و الصريح في المعاملة و في فهم الامور..أسلوب ارتكز على منطق لا يحابي و لا يجاري، يجرح و يداوي ، يعري الحقائق لكنه لا يقسو ، جريء لكنه غير وقح.

قلت لي يوما و نحن نصطدم بتلك العقلية الرجعية لأناس كأنهم يعشقون العيش بين الحفر، أناس ظلاميون و يفتخرون : “منذ كنت في الجامعة تكوّن لدي رأي لا تزيده الأيام الا صحة و هو أن الناس العقلانيين في تفكيرهم ، المنطقيين في تصرفاتهم هم نتاج التكوين العلمي.يجب أن ندخل المنطق الرياضي في نظامنا التربوي لكل الشعب حتى للأدبيين “.

بعدها قرأت أن أحد الفلاسفة اليونان كتب على باب الاكاديمية التي كان يدرّس فيها طلابه" لا يدخلنّ أحد لم يكن مهندسا ". و كان يقصد بالهندسة التمكن من الرياضيات.

أفتراه اذن المنهج الرياضي هو الذي ألّف بن عقلينا و أحدث اللحمة بين قلبينا؟

****

كنا اثنتين و المخبر ثالثنا…

والأدب في فواصل التفاعلات الكميائية رابعنا…

كنت أقرأ عليك فائض وجعي…

وكنت تستمعين الي بفائض من المودة الصادقة…

كنت اذا انتهيت تقولين : " هذا جميل ..لماذا لا تتحركين لنشر أعمالك؟ "و كنت تعرفين عنادي المتطرف في هذا الشأن فتثورين في وجهي أحيانا : " هذا جنون.. فائض كرامتك وفائض كبريائك سيقبرانك. انه حقك أن تستغلي الفرص . انه واجبك ان تبحثي عنها ".

كنت لا أسمعك و أقول و قد ترسّخت فكرة لا أدري أين اصطادها فكري و تبناها أو ربما اخترعها و استهوته بعدها : " أنا لا أتذلّل بأدبي. قد أتوقف عن الكتابة اذا يئست من جدواها و لكن أبدا لن أتملّق أحدا من أجلها..لن أنافق ..لن أتزلّف " فكنت تصمتين.

كنت تستزيدينني فنًّا وأستزيدك محبة و صدقا…

وحدك ملكتِ أقفال القلب ودخلت من كل أبوابه…

وحدك فهمت القلق الوجودي الذي يمزقني…

وحدك سمعت صرخة “هاملت” في داخلي : ” ما اشدّ ما تبدو لي عادات هذه الدنيا مضنية ، تافهة ، لا نفع منها “.

وحدك عرفتني حق المعرفة…

كنت تنوبين عني اذا غبت لتقولي ما كنت سأقوله لو كنت حاضرة.و كنت أفعل الشيء نفسه في غيابك.

كنت الناطق الرسمي بمواقفي وكنت بدون تكليف منك وكيلتك. ومن يدري ربما حتى بين يدي الله غدا اذا ناداك نطقت و اذا ناداني سبقتني اليه.

جنّتنا ! جنّتنا كانت في قلبين اجتمعا على الصدق و الزيف يحاصرهما من كل جانب…

جحيمنا ! جحيمنا كان احساسا بالعدمية وسط أطلال الأحلام البائدة…

لم تكن النذالة فينا و لا الخسّة والجبن . كانت الهامة منتصبة و الرأس مرفوعة و لو كنا وسط الطوفان، و لو فقدنا كل شيء.( لو سمعتني لقلت ساخرة : و هل ملكنا شيئا لنفقده؟)

****

كنا اثنتين… و افترقنا!!! 

كنا اثنتين… و واحدة منّا انتبذت مكانا قصيًّا !!!

المخبر الآن وحيد يشكو اليّ في جلبته صمتي وغيابك…

أنابيب الاختبار تاقت الى لمساتك…

طيور اللقلق على أغصان شجرة الصنوبر المقابلة للنافذة كبر صغارها و هاجروا مثلك…

الصداقة الجميلة تنظر كل صباح متوجعة الى سماء رمادية و تشكوها يتمها ببعدك..

و انا لمن أشكو فقدانك ؟

افترقنا !!!

جاء قدر في شكل رجل فرقنا..

جاء رجل يحمل قدرا بعثرنا..

ليته كان على مقاس الفارس المنتظر…

ليته كان يحمل القدر المرتقب …

رأيت بعدها محاولاتك المستميتة في رأب الصدوع و إيجاد منطق لأشياء لم تكن تتبع أي منطق ، ثم كانت النهاية على شكل النهايات التي لا يصنعها الا المتفرّدون في شخصيتهم و قراراتهم و مواقفهم من الناس و من الاحداث…

قلت لي و نحن نلتقي بعد افتراق لنبتعد ثانية : " أتعلمين ..ما يعتصر قلبي أنك كنت موجودة حين احتجتك و لم أكن كذلك حين احتجتني ".

كان الألم يجيبك عني…ظل الألم يجيبك عني : " مغفور لك غيابك…مغفورة لك وحدتي.لكن الذي لن أغفره أنا لنفسي حتى و أنت تمنحينني صك الغفران أنني شجعت هذا الفراق…أردت أن نفترق و قد رسمت لك في  مقابل هذا مرفأ آمنا و جنة خضراء هي حلم كل انسان، بل هي حقه الذي يهفو اليه بقلبه و جوارحه."

أخطأت التقدير و أنا أحضر عرسك ، لم أكن أعلم أن العزاء في المنعطف ينتظر.

و هاهي الدموع تسيل على وجهي و تلطخ أوراقي و لا أستطيع منعها.. لا أستطيع وقفها..لا استطيع الا أن أستزيد العين منها علها تمحو وجع القلب أو تخفف من عذابه  و أنا أكتب عنك …عنّا…

و أمرّ بيدي على” اعترافات جان جاك روسوConfessions ، الكتاب الذي أحببتِ ..الكتاب الذي أهديتني و أنت تبتعدين و أفكر في طائرتك التي أقلعت فيزيد ألمي و يتفتت الفؤاد في داخلي و تتبعثر كلماتي فيحتار القلم أيرثيك أم يرثيني.

****

صديقتي !!!

لم أشأ أن أرافقك الى المطار و أنت تطلبين مني ذلك لأن القلب كان سيتفتّت عند وداعك .

لكن عزائي أني أتصورك و أنت تحطين الرحال هناك في أقصى الشمال والعمق فيك يقول متأوّها: "ها قد جئتك يا بلد الحريات و قد تعب جسمي النحيل من تناقضات هذا العالم ! " فيستقبلك البلد الذي يحترم العلم و حامليه و الحرية و مناشديها و المنطق و مستخدميه ويفتح لك طريقا هي مغلقة هنا لتجدي أحسن من المخبر الذي تركت و الأجواء التي هجرت.

عزائي أنه هناك ستجدين من يقدر خصالك الجميلة و ستعملين في الوسط الذي كنا نطمح للعمل فيه.ربما كان هذا هو التعويض رغم أن التضحية كبيرة لا يعلم مداها الا الله الذي أبدا لم نفقد الثقة في رحمته هو القائل :" و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم" .

عزائي أننا سنلتقي ثانية وقد قفزنا على كل الجراح وعلى خيبات الأمل لنتحاكى عن ذكرياتنا البسيطة وتركيبتنا المتفردة وغرابة قدرنا.

عزائي فكرة تراودني أنه ربما سيكون ذلك البلد أرحم بك من وطن أردتِ البقاء فيه فرحلتِ ونويتُ النزوح عنه ثم بقيتُ. هي سخرية قدر لم يعد يستطيع التمييز بيننا.

أمّا أنا فسأكمل المشوار وسأغرق في تفاصيل أيامي وفي كتبي حتى يعتريني الدوار.

أنا سأظل أسبح ضد التيار و سأجلس أرقب عودتك على رصيف الانتظار.

أنا سأقوم لأصلي ركعتين من أجلك وأطلب أن يكون معك حيثما حللت القوي الجبار.

                                                                كتبت في جيجل /أكتوبر/2000

قد يعجبك أيضا

أترك تعليقا