الرئيسية قصص و خواطر الجمر و الرماد

الجمر و الرماد

بقلم وهيبة جموعي
A+A-
إعادة

"الى كل دمعة في الأحداق"

كان يحبني …

و كان يحب البحر…و “شارل أزنفور “..

و كل حبه كان للانسان…

و ما أروعها من لحظات كنا نعيشها و السيارة تسير بنا على الكورنيش الجميل في بطء  و سكون لم يكن يقطعه سوى هدير الامواج و هي تتكسر على الصخور فتوقظنا من ذلك الغرق اللذيذ في ألحان المطرب الفرنسي و ذلك الغوص العميق في بعد آخر باتجاه جنة أحلامنا و قد حررنا سحر المكان من جاذبية الأرض و تسارع الزمن.

كنا منسجمين كثيرا ..

و كنا متوافقين حد الخوف…

الخوف من المجهول…الخوف من اليقظة المفاجئة …الخوف من العودة الى واقع شرس ،أهواله متربصة بنا في كل منعطف و زاوية …الخوف من تلك الروعة الكاملة في اتفاقنا وقد تواتر قلبانا على موجة واحدة .فالاشياء الرائعة حقا مثل الاشياء الرديئة جدا تحمل بذرة موتها فيها.

فكنت أخاف حقا..فعلا..جدا، لاسيما مع مسلسل “كورونا” الذي ابدع في غفلة عن الطيبين.

و كنت أخفي عنه خوفي و هو يخطو كل صباح خارج البيت متجها الى حيث يرابط على جبهة الدفاع عن الحياة…

كنت أداريه في زاوية من قلبي .و في كثير من الأحيان كنت أهمله و أتناساه حتى لا أحطم سحر اللحظات الحاضرة و جمال ذلك الحب المتبادل.

قلت له مرة :” أنا لا أتصور الدنيا بدونك ..أنت دنياي و آخرتي ..أنت سمائي و أرضي ..أنت الجمال كله في حياتي ..من قبلك لم تكن لي حياة و من بعدك لن تكون لي ..فلا تغب أبدا عني. “

قبلني و رد في حب : ” أنا لك و معك الى الأبد يا توأم الروح “

كان و هو يجيبني بابتسامته الصادقة و كلماته الرقيقة يدخل شيئا من السكينة الى نفسي المضطربة فتتبدد أطياف الخوف الرابضة في العمق مني فأومن بأنه باق الى الأبد ..أزلي لا يموت .و أطمئن و هو يجرع قلبي ذلك البلسم الشافي الى أن البوم الناعق كله هاجر ..الى أن النوارس البيض كلها عادت.

كنت أرى في ابتسامته ميثاقا غليظا لن تقدر على نقضه أي قوة . و كنت أقنع نفسي التي لم تكن تريد غير هذا أن كلماته وحي أو ما يشبه الوحي وضعها الله على لسانه لتقر العين و يرتاح الفؤاد.و أنا المؤمنة بالله كنت أعتقد أن ربنا الرحيم لن يسلبني هذا الحب..لن يوقف عني الهواء..لن يأخذ مني سبب الوجود أنا التي عشت زمنا على هامش الزمن.

الهي..أيمكن أن تبلغ السذاجة بامرأة ذلك الحد الذي تطمئن فيه الى دنيا سرعان ما تقلب ظهر المجن للغافلين عن الوجه الآخر من عملتها؟

…….

و أسمع الآن ” شارل أزنفور “يردد في لحن جميل :

لم أكن أظن أبدا…

أننا سنلتقي …

الصدف غريبة …

تحدث الاشياء…

القدر المتعجل …

للحظة يأخذ فسحة…

لا لم أنس شيئا…لم أنس شيئا.

فتتقطع أوصال قلب يدعوني بعنف الى الرحيل …الرحيل الى جبهتين : جبهة الموت أو جبهة الغربة …و الغربة موت و الموت غربة و لا مفاضلة بينهما فكلاهما واحد.

أسمع الآن المطرب الذي أحبه و همس في أذني مقاطع رقيقة من أغانيه باحساس كبير فلا أجد في نفسي غير شعور هائل مدمر يدعوني الى الفرار..

الفرار من قلبي …

الفرار من ذاكرتي…

الفرار من الألحان التي تعمر البيت و كهوف القلب…

الفرار الى غربة القبر أو غربة السفر…

و كلا الغربتين أقل قسوة  و حدة من غربتي الآن…

و الآن …أنظر الى أنحاء البيت الخاوية فلا أجد غير الفراغ و بقايا أطياف موت جاء كالزوبعة العاتية اقتلع ههنا الحياة من جذورها…

دمر …خرب …حطم…

موت جاء قبل ميعاده بوقت طويل…

جاء ظلما …

جاء طعنة …

جاء غدرا…

و لم يكن الوقت للموت…

لم يكن الوقت للشتاء ، للصقيع ، للدموع …

كان الوقت للربيع ، للحياة ، للأمل ، للشموع…

لو شاءت الأقدار…لو شاءت الأقدار…

لكن الأقدار لم تشأ. و قدري أنا أن ينسحب عمري مني في وقت خلت نفسي فيه أبدأ عمرا جديدا و أولد مع مولد حبي العظيم.

و هأنذا أدور في جنبات البيت الخالي الا من روحه الطيبة، الخاوي من كل معنى ،من كل بسمة ، من كل رائحة، فأصطدم في كل شبر منه بذكريات تصفعني ،تبري القلب الموجوع في داخلي تزيد من عمر الألم و ضخامة الوجع.

و أسمع صوته يردد بالحاح :

  • يجب أن تقاومي …يجب أن تعيشي.

فأخبط رأسي على الجدار أكاد أصدعه و الآه يجيب في أعماقي :

   – لمن أعيش بعد الآن ؟ و لماذا أقاوم و كل ذرة في تطلب الرحيل، تتمنى الموت تستعجل اللحاق بك؟ و ماذا أفعل بحياتي و القلب بدونك رقعة سواد و الألم حجم يعجز الفؤاد عن احتوائه ؟ ماذا أفعل في هذه الدنيا بقلب معطوب ، وحيد ،مكسور و ليست الدنيا لمثل هذي القلوب؟

فيتراءى لي بوجهه الذي يطفح بشرا ، ببسمته التي تعبق حبا ، يدنو مني يكاد يلامسني، تحاصرني أنفاسه .يقول لي بصوت يفيض حنانا :

  • أنت لست وحدك و هذا طفلنا غدا يخرج الى الوجود يطلب أما قوية و …

و أقاطعه و أنا أصرخ يائسة يسبقني فيض الدموع :

   – و يطلب أبا كان يمكن أن يكون الصدر القوي الذي يحميه و يسير به في غابة اسمها الدنيا …يطلب أبا كان يمكن أن يكون منبع الدفء ، مصدر الأمان ، يطلب أبا يربيه و يعلمه شيئا من مدرسة الحياة و من مدرسة الرجال..يطلب أن ينادي : بابا !!!

و ال ” بابا ” غير موجود…

الـ “بابا ” ذهب و لن يعود…

الـ “بابا ” أخذه كائن مجهري ، جبار ، لا يرى ، يسمونه “كورونا” ، صنيعة الرب أم اختراع العبد؟ لا ندري فالحقيقة مطمورة لن تظهر ككل الحقائق الا بعد حين .

ذاك الاب الجميل، الرائع، أُعطيَ الموت و هو ينادى بالحياة …

فماذا يفعل بأم وحدها و هي الذبيحة، هي القريحة، هي الجريحة ؟

ماذا يفعل بأم ماضيها كومة ذكريات  ، حاضرها كومة عذابات ، مستقبلها كومة مجاهيل في زمن شرس ، شرس و في عالم لم يعد آمنا بتاتا؟

و يغيب وجهه تملؤه الدموع و لا أحس الا بثورتي العاتية على كل الأوضاع ، على كل الظروف التي تسحقني و تسحق الكثير من البشر .و أمام عجزي المطلق لا تزيد الثورة الا التهابا و كلما زاد احساسي بعجزي زادت ثورتي فكأنها ثورة على عجزي ذاته.

و أصرخ ، تهتز أركان البيت من صرختي :

  •  ماذا أفعل يا رب ؟ يا رب ماذا أفعل؟

و أسقط فريسة للفيروس انا أيضا …اياما عصيبة و انا في سجال معه رغما عني فلم اكن اريد ان اعيش…

و لا أموت…

أستفيق بعد حين …

أنهض برأس مثقل ، بجسد متضعضع ، أنظر حولي ، أجمع في الحقيبة أشتات ثياب، أجمع في القلب كل الذكريات ، أمد يدي الى شريط ل “أزنفور” ..تحجب عني الرؤية غلالة من الدمع الهتون  . يرجع الى ذاكرتي حديث دار بيننا ذات يوم جميل :

قال و هو يقلب الشريط في المسجل :

  • لقد صدق “نيتشه” حين قال:” لولا الموسيقى لكانت الحياة على خطأ” أليس كذلك يا حبيبتي ؟
  • ذاك فيلسوف نازي على ما أظن و لكنه صدق في هذا حقا –أجبت مازحة-
  • العالم كله نازي بشكل أو بآخر لكنه اخترع لنفسه اكسسوارات جميلة مثل الديموقراطية وحـقوق الانسان و مساعدة البلدان الفقيرة و غيرها .أشياء براقة لكن النازية تجري في العروق .
  • و أنا أيضا نازية .. في حبك أنا أشد نازية من هتلر !
  • يا الهي ! ما أجملها من نازية !

و ضحكنا و اقتربنا و نحن نستمع في صمت ساحر الى المطرب الفرنسي.حتى اذا ما انتهى الشريط قال مأخوذا :

  • روعة ! حقا روعة !

فقلت في مزاح:

  • حبي أم ألحانه ؟
  • حبك على وقع ألحانه يا أجمل لحن في حياتي !

و تبسم الحب ضاحكا على وجهه . و تبسم الفجر باشا في داخلي .و أردت التفلسف قليلا على هامش اللحظة الجميلة فسألت :

  •  عجيب شغفك بأغاني هذا المطرب.أليس هذا ما يسمونه الاستلاب ؟

أجابني و قد أخرس صوت كل فلسفة أخرى عدا فلسفة الحب :

  • لا يا حبيبتي !…الفن ميراث عالمي .والموسيقى فن منبعه الحب.و الحب ملكية عامة ملكية ترفض الاستثمار السيء .ثم ان كل فن جميل هو دعوة صادقة لشيء من الانسانية في تسيير هذا العالم .فلماذا نأخذ الفنان بجريرة وطنه و نكتم صوته لتكبر مساحة حقدنا ونتبادل  الموت بدل الحب ؟

و استطرد بعد صمت قصير :

  • ألا ترين معي أن العالم سيكون أجمل لو تركنا القلوب تتحدث بدل الآلات الحاسبة .لو أنتجنا الفن بدل الاسلحة؟

و رأيت معه الذي رآه و الذي كان سيراه..

و اعتنقت فكره و مشيت على خطاه  .فأحببت الموسيقى دون أن أكون شيوعية و تدينت دون أن أكون ارهابية و كنت فقط امرأة عادية…

غير أني أنا الضحية.

و الآن و قد سلبت مني روحي فقدت العقل… فقدت كل عقلانية.

الآن أضعت طريقي …أضعت حتى الهوية.

الآن يملؤني اليأس و سوط الحيرة يجلدني بعلامات استفهام قاسية :” الى أين ستذهبين ببذرة الحب الجميل ؟ أين ستغرسينها ؟ و في أي برية ؟ “

و أمد يدي أحمل الحقيبة …ألقي النظرة الأخيرة على جنة ضاعت و قلعة دمرت..أتلمس طريقي نحو الباب خائرة القوى..يعانق القلب كل طوبة ، كل صورة..أستدير ..أمسك المقبض ..أديره ..أحاول الاندفاع الى الشارع فتمنعني قوة عظيمة .

يناديني صوته الحبيب من الداخل : ” لا ! أرجوك لا ترحـلي ! لا تهربي ! فكل بقاع الارض ما بين جمر و رماد”

الهي ! ماذا افعل بجرحي ، بجمري ، برماد أيامي؟ ضاقت بي الارض بما رحبت فابن اجد الراحة ؟ و الى اي مرفأ آمن أقود طفلي و كل المرافئ حيث يوجد الانسان لم تعد آمنة للانسان؟

قد يعجبك أيضا

أترك تعليقا